حلقة 19
نجيب سرور
1 يونيو 1932 – 24 أكتوبر 1978
مسقط رأس: إخطاب – الدقهلية
أملك الكثير والكثير والكثير لأقوله عن نجيب سرور في ذكرى رحيله الثانية والثلاثين، أملك الكثير لدرجة أنني لا أعرف كيف أبدأ الحديث عن الرجل الذي قررت منذ فترة طويلة أن يكون هو مثلي الأعلى ووالدي الروحي. هو أكثر شخص تمنيت لو كان القدر قد سمح لي بلقاءه، ولكنني –للأسف- قد أتيت لهذه الدنيا بعد أن كان قد ودعها هو بنفس الصورة التي ظل عليها طوال حياته: ثائرا ومقهورا ومظلوما ومشردا، وقويا وشامخا شموخ العمالقة والموهوبين.
موهبته كانت أكبر من أن يحتملها جسده الهزيل، وإيمانه بما يفعل كان أكبر من أن يحتمله مجتمع كالذي عاش فيه. شاعر يكتب بالفصحى والعامية بتمكن مذهل، ومؤلف مسرحي يعد علامة فارقة في تاريخ المسرح المصري، ومخرج وممثل ذو خضور طاغ، وناقد أدبي ثاقب الرؤيا وجزل الإسلوب، وقبل هذا وفوقه رجل بمعنى الكلمة، يعلم أن الرجولة هي قول وفعل ما تؤمن به والاستعداد للموت جوعا دونه، لا أن تملأ الدنيا صراخا بقيم وقناعات أنت نفسك مستعد للتضحية بها عند أول فرصة!
جاع نجيب سرور وتشرد وعاش ومات فقيرا ليس بسبب معارضته للنظام ولا بسبب فنه اللاذع كما يعتقد الجميع، فالحقيقة أن غيره الكثيرون ممن كانوا أعلى صوتا في النقد والمعارضة عاشوا ويعيشون بيننا الآن مستفيدين من ماضيهم ومواهبهم في جمع الثروات. ولكن الحقيقة أن نجيب سرور قد قُتل ألف مرة حيا وميتا لأنه مثّل لهؤلاء الشيء الوحيد الذي لا يقدرون على فعله: الاتساق بين القول والفعل، دون أدنى فرصة للتنازل أو التراجع تحت أي ظرف مهما كان صعبا.
لن أتغنى بموهبة نجيب سرور التي هي أكبر من قدرتي على النقد، ولكنني سأكتفي بمشهد يلخص القيمة الأهم في حياته: الرجل الموهوب المظلوم يعيش في شقة خاوية بميدان الجيزة، يعاني من مضاعفات مرض السل ولا يملك تكاليف العلاج، ولا يملك أي مصدر دخل ينفق منه على ابنيه وزوجته، يتلقى اتصالا من مسئول كبير بوزراة الإعلام يطلب مقابلته، فيسير من ميدان الجيزة حتى ماسبيرو لأنه لا يمتلك أجرة المواصلات، يقابل المسئول فيقدم له عرضا مغريا، تأليف وإخراج خمس عشرة مسرحية لحساب التلفزيون المصري، على أن تكون كلها مسرحيات صيفية خفيفية تحتوي على أغاني ورقصات دون "كلام كبير" مما اعتاد عليه نجيب، نظير الحصول على خمسة آلاف جنيه عن كل مسرحية (وما أدراك ما قيمة المبلغ خلال سبعينات القرن الماضي)، فيكون رد نجيب سرور بمنتهى البساطة أن يغادر المكتب ويعود ماشيا لمنزله، ليموت بعدها بأشهر قليلة دون أن يترك لأبناءه أي شيء سوى سيرته الطيبة، ونزاهته التي يشهد بها العدو قبل الصديق.
حمل مجموعة من أهم كتابات نجيب سرور
No comments:
Post a Comment