Saturday, May 28, 2011

حلقة 36 - أسامة أنور عكاشة

حلقة 36

أسامة أنور عكاشة

27 يوليو 1941 – 28 مايو 2010

مسقط رأس: طنطا - الغربية لأسرة من محافظة كفر الشيخ

في هدوء وتجاهل كبيرين تمر اليوم الذكرى السنوية الأولى لوفاة إمام كتاب الدراما التلفزيونية العربية أسامة أنور عكاشة، لتتسبب الأحداث الصاخبة في تناسي ذكرى عملاق تحتاج قيمته وتأثيره الفني والاجتماعي للكثير من الدراسات ليمكن إدعاء الإلمام بها، لذا فإن التناول التالي ما هو إلا محاولة بسيطة لقراءة سيرة مولانا عكاشة كأقل هدية يمكن أن تقدم لذكراه، قراءة حاولت أن أوجزها في أربع نقاط مركزة..

أولا.. تنبع قيمة عكاشة بالأساس من كونه مؤسسا لفن كامل إسمه الدراما التلفزيونية العربية، وأزعم هنا إنه فن مستقل بذاته تماما عن فن الدراما التلفزيونية حول العالم، فالدراما الأمريكية والأوروبية والآسيوية (والأمر هنا معقد ويحتاج لدراسة أكثر تفصيلا) تدور في فلك بعض الأشكال البنيوية والموضوعية التي لا يقع من ضمنها على الإطلاق صورة "الرواية الدرامية الاجتماعية المكثفة ذات الطول فوق المتوسط" التي كان أسامة أنور عكاشة هو مطلقها، فلا هي يمكن اعتبارها ضمن "أوبرا الصابون" الأمريكية الرخيصة المعتمدة على الطول المفرط شكلا والعلاقات العاطفية موضوعا، ولا هي ضمن "المسلسلات السينمائية" التي يتمد تمديد مدتها طبقا لنجاحها ولتعقد حبكتها التي تكون أكثر تشويقا في صورته المجردة من الموضوعات العكاشية المائلة للدراما الاجتماعية.

فعكاشة هو الأب الروحي لفن لم يعرفه العالم خارج إطار الوطن العربي، وهو الفن الذي شهد بعض الإرهاصات مع نشأة التلفزيون المصري، ولكنه ما كان ليحقق هذا النجاح والانتشار الهائل مالم يهبه الله رسولا كأسامة أنور عكاشة، وقد أجاب صديقي السيناريست الموهوب محمد أمين راضي عن التساؤل الذي طرحه البعض عن مدى قدرة دراما عكاشة على النجاح إذا ما كان الرجل قد بدأ حياته في ظل مثل هذا الانفجار التلفزيوني الحالي، فكان الرد الوافي هو إن لولا وجود عكاشة لما كان هذا المولد التلفزيوني قد وجد من الأساس، ولكان هذا الشكل المصري تماما من الدراما التلفزيونية قد انقرض مثل الكثير من تجارب الشكل البرامجي المرتبطة بسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بل إن بإمكاننا تحميل عكاشة ذنب المستوى السيئ للدراما الحالية لأن نجاحه فتح الباب للكثير من محدودي ومعدومي الموهبة الذين حاولوا تكرار تجربته دون أن يمتلكوا الأدوات الإبداعية اللازمة.

ثانيا.. قد نختلف أو نتفق مع أسامة أنور عكاشة الشخص والمؤلف، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر حالة الاتساق الكامل بين الرجل وأعماله، فهو الصورة الأمثل للكاتب "صاحب المشروع"، الكاتب الذي اختار من يومه الأول أن يكون محللا ومحاميا وناقدا للشخصية المصرية وبناها الاجتماعي، والتزم حتى يومه الأخير بهذا الاختيار الذي تحول مع تراكم الخبرات إلى كائن فني حي يمتلك ضميرا وإرادة خاصة به، جعلت صاحبه حتى نهاية عمره لا يصنف إلا طبقا لقناعاته الخاصة، ولا تشوبه أي شائبة إنتماء أو تواطؤ مع أي جهة بخلاف الجهة العكاشية، ليكون مبدعا اكتفى بسلاح موهبته ودأبه ليحفر به اسمه في تاريخ المجتمع المصري، دون أن يحتاج لإبرام أي صفقات أو الحصول على أي استثناءات سلطوية.. وهو مشوار طويل وشاق لكنه انتهى بتتويجه ملكا متوجا لكتاب الدراما المصريين، بصورة تصعّب المهمة على أي كاتب يسعى للحصول على شهرة وتقدير مماثلين.

ثالثا.. يمثل عكاشة صورة مثالية لتضافر الموهبة بالصنعة، والشعبية بالتجريب، فعلى مدار مشواره الطويل تجد الكثير من المتناقضات، من مسلسل اقتربت حلقاته من 150 حلقة كليالي الحلمية إلى مسلسلات لا تتجاوز حيز ال15 حلقة كالراية البيضا والنوّة، ومن أعمال معتمدة بشكل كامل على تيمة شعبية وبناء كلاسيكي كضمير أبلة حكمت إلى أعمال تنحو إلى التجريب المفرط في السرد والإيقاع كأنا وانت وبابا في المشمش وعصفور النار، التناقض الذي يوضح الروح الفنية المتقدة التي امتلكها عكاشة، الراغبة في تحقيق كل أحلام الفنان من الشهرة والجماهيرية إلى الابتكار والإضافة إلى تراكم التاريخ الفني.

رابعا.. نوع آخر من التناقض تراه إذا ما حاولت تصنيف أعماله، لتكتشف إن المشروع العكاشي ليس بسيطا كما يتبدى لغير المدقق، بل إنه مشروع مركب يضم ثلاثة اتجاهات واضحة (والتصنيف هنا لمحمد أمين راضي مجددا)، تتشابه في بعض الأمور وتتنافر تماما في البعض الآخر، فالاتجاه الأول هو الدراما "الدون كيشوتية" الشخصية بالأساس، التي تعتمد على وجود بطل نبيل يواجه مشكلات العالم الخارجي، وعلى رأس هذا الاتجاه بالطبع أبو العلا البشري الذي زينت صورة دون كيشوت تتراته وكذلك ضمير أبلة حكمت وأمرأة من زمن الحب، أما الاتجاه الثاني فعلى العكس هو اتجاه تحليلي بطله الزمان، يعتمد بالأساس على تثبيت الشخوص والمكان وتحريك الزمن لتحليل الحراك المجتمعي بشكل "شبه علمي"، والصورة الأوضح لهذا الاتجاه هو عمله الأيقوني ليالي الحلمية وكذلك الشهد والدموع، أما الاتجاه الثالث والأخير –طبقا لتوقيت ظهوره في المشروع- فهو اتجاه البحث في الهوية ومحاولة فهم الشخصية المصرية، وهو الاتجاه الذي شغل عكاشة بأكبر قدر خلال العقدين الأخيرين من حياته، فأفرز عملا بديعا اسمه أرابيسك ومشروعين ضخمين لم يمهله العمر الوقت الكافي لإتمامهما هما زيزينيا والمصراوية.

لكل نقطة من الأربعة السابقين دورا في تكوين أسطورة أسامة أنور عكاشة، ومع تراكمها في أذهان المصريين عبر سنوات نشاطه الفني كان لابد وأن تحدث الكثير من التغييرات في كل من وما حولها، بداية من تأثيرها على وسط الإنتاج التلفزيوني مثلما أشرت في نقطة سابقة، إلى تأثيرها على وعي الجمهور الذي اختار عكاشة ليكون مؤلفه المفضل، إلى تأثيره في الفن والأدب المصري بشكل عام، فببساطة تامة يمكننا أن نقول إن أسامة أنور عكاشة هو الذي ارتقى بفن الدراما التلفزيونية ونقاه من الشوائب، ثم ارتفع به ليبلغ مصاف الأدب المرئي أو الواقعية السحرية التلفزيونية، وهو ابن المجتمع المصري البار الذي صنع تاريخا يصعب مقاربته.

Friday, May 13, 2011

حلقة 35 - كمال الشيخ

حلقة 35

كمال الشيخ

5 فبراير 1919 – 2 يناير 2004

مسقط رأس: حلوان - القاهرة

لو سألت مائة شخص من العاملين في السينما ومحبيها عن أفضل عشرة مخرجين في تاريخ السينما المصرية فستتكرر أسماء مثل يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وعاطف الطيب ومحمد خان، يليها أسماء مثل رأفت الميهي وخيري بشارة وهنري بركات وعلي بدرخان، وقد يميل البعض للمعاصرة فيختارون أسامة فوزي أو يسري نصرالله أو هاني خليفة، وبالطبع سيتجه اختيار "المُثقفين" إلى شادي عبد السلام وربما توفيق صالح، ولكن وسط كل هذا الزخم من الأسماء المختلفة في هامتها وأهميتها والمتفقة في تأثيرها وتفردها، سينسى العدد الأكبر ذكر اسم كمال الشيخ، ربما يذكره البعض على استحياء ولكن تأكد إن تجميع عدد الأصوات لن يضعه ضمن أفضل عشرة أسماء، وهو الأمر الذي سيجعل هذه القائمة ببساطة بحاجة إلى التمزيق والإلقاء في أقرب صفيحة للقمامة.

ولقد توقفت كثيرا محاولا التفكير في سر هذا الإهمال والتجاهل المنهجي الذي يتعرض له الراحل كمال الشيخ بعد أعوام قليلة على وفاته، بل والذي تعرض له خلال 17 عاما كاملة قبل وفاته لم يقدم فيها أي عمل في وقت قدم فيه أشخاص أقل ما يوصفون به إنهم جهلة عشرات الأعمال، وسر حيرتي إزاء هذا الموقف الغريب إن سينما كمال الشيخ لم تكن أبدا من النوع الطارد للإنتاج، بمعني أنني أتفهم تماما ابتعاد رجل كتوفيق صالح عن العمل في ظل آليات سوق لن تسمح له بتقديم الشرائط الذهنية المأدلجة الذي اعتاد تقديمها، ولكن أن يجلس رجل لُقب يوما بهيتشكوك العرب من فرط تمكنه من صنعة الإثارة والتشويق فهذا أمر محير. –وأسجل هنا اعتراضي على تشبيه كمال الشيخ بهيتشكوك لأن فيها حسب رأيي تقليل من شأنه ,الشيخ لا هيتشكوك!

بعد تفكير ومحاولة لاستقراء منهج مجتمع السينما المصري وطريقة تفكير أفراده توصلت إلى إن أسباب عظمة كمال الشيخ هي ذاتها أسباب التجاهل والتهميش الذي يتعرض له بشكل منتظم، فالحقيقة إن السينمائيين المصرين من كتاب ومخرجين ونقاد بل ومشاهدين قد اعتادوا بشكل عام –وهناك استثناءات بالطبع- على تقسيم الأعمال السينمائية إلى فئتين عريضتين: الأعمال التجارية والأعمال الفنية، وفي قول آخر أفلام الشباك وأفلام المهرجانات، وفي قول ثالث أفلام الجماهير وأفلام المثقفين، وكان الدأب الدائم هو الفصل الكامل بين الفئتين، ووضع تصورات لأفلام كل فئة يصعب تجاوزها، فأفلام الشباك ممتعة ومثيرة وخفيفة الظل، ولكنها خفيفة المضمون أيضا لا تهدف سوى لمقايضة أموال المشاهد بساعتين يقضيهم سعيدا، أم الأفلام النخبوية فهي في الغالب أفلام معقدة محشوة بالأفكار عسيرة الفهم ولا يشكل الاستمتاع بمشاهدتها أي حيز من اهتمام صناعها، وأكرر هنا إن هذا هو الوضع السائد مع وجود استثناءات دائمة.

وبالوقت خلق كل اتجاه عدد ضخم من المريدين والمروجين له، يعتمد كل جانب منهم بالأساس على السخرية من الآخر كمصدر لشرعيته، فدعاة السينما التجارية يتحدثون عن التسلية والترفيه وإتقان الصنعة ويسخرون من الأفكار العميقة واللغة السينمائية المعقدة في الجانب الآخر، بينما يتحدث أنصار السينما الفنية عن الإبداع النخبوي ساخرين من التردي والسطحية في أفلام التجاريين، وعندما يصبح الصراع بهذا التطرف كان لابد وأن يكون الضحية شخص مثل كمال الشيخ لأنه ببساطة يهدم بأعماله آراء الجانبين ويسخر من جمودهم وتشدقهم، فهو الذي أثبت "في مرحلة مبكرة للغاية من عمر السينما المصرية" إن القيمة الفنية والفكرية العالية لا تتعارض إطلاقا مع التشويق والجماهيرية، بل وأن صانع الأفلام المتمكن قادر على أن يجعل ارتباطهما طرديا، فأكثر أفلامه إثارة وجاذبية للجمهور هي نفسها أعلى أفلامه قيمة وأثراها فنا.

لاحظ إننا نتحدث عن مخرج بدأ العمل في خمسينيات القرن الماضي، في وقت لم يكن فن السينما في مصر قد تمايز من الأساس عن باقي الفنون بصورة تسمح بأن يكون له ملامح واضحة، ليصنع فيلم مثل "حياة أو موت" ليؤسس به لفكرة السينما الشعبية القادرة على تحدي الزمن، تحدي زمن إنتاجها بصنع فيلم للمرة الأولى يتراجع فيه دور النجم كثيرا لتصبح البطولة للمدينة، ويتحدى زمننا الحالي بقدرته على المواصلة لتشاهده بنفس المتعة بعد أكثر من نصف قرن.. فيلم يمتاز بلغة سرد شديدة التماسك بدرجة تجعل من المستحيل أن تبدأ المشاهدة دون أن تنهي الفيلم الذي لا تتجاوز مدته الساعة والربع "وهو في حد ذاته تحطيم لفكرة سائدة حتى الآن تتعلق بالحد الأدنى لزمن الفيلم"..

على هذا المنوال استمرت مسيرة كمال الشيخ السينمائية، ليقدم لأرشيف السينما المصرية عدد ضخم من الأعمال التي يجمع معظمها بين الحسنيين: الشعبية والفن، بالإضافة للقدرة على الاستمرار.. ويمكنك أن تشاهد أفلام مثل "الخائنة" و"على من نطلق الرصاص" و"غروب وشروق" لتفهم سر عظمة الرجل التي شكلت مأزقا لكل من يحاول الدفاع عن رؤية سينمائية متطرفة، لأنه يقول ببساطة لدعاة السينما التجارية إن دفاعكم عن أفلام ضعيفة لا ينم سوى عن عجزكم عن تقديم الأفضل، ولدعاة سينما النقاد والمهرجانات إن تشدقكم سببه الفشل في الوصول للجماهير، فكانت النتيجة هو نسيانه حيا وميتا، والاحتفاء بمن هم أقل منه قدرا وموهبة وتأثيرا.

Monday, May 2, 2011

حلقة 34 - سعد زغلول

حلقة 33

سعد زغلول

يوليو 1858 – 23 أغسطس 1927

مسقط رأس: أبيانة – فوّه – كفر الشيخ

يعشق المصريون توزيع الألقاب في كل المجالات وعلى كل المستويات، وكلها بالطبع ألقاب تتعلم بسمات التفرد والشرف والقوة والفخر.. والزعامة!

لم أفهم أبدا هذا الإفراط في نعت السياسيين بالزعماء، ولم أجد أي تبرير منطقي لاعتبار أي رئيس وأي قائد بل وأي ناشط زعيما، وأندهش في كل مرة أقرأ فيها سطورا تصف ناشطا وطنيا مثل محمد فريد بالزعامة لا لشيء سوى لتضحيته بأمواله من أجل قضية الاستقلال، فمع كامل احترامي لشخص الرجل ولإيمانه بالقضية، ولكن الاستغناء عن الثروة لا علاقة له من قريب أو بعيد بالزعامة، ولا يضمن لصاحبه أي نوع من الحفاوة الشعبية أو القيمة القيادية، مثله مثل التضحية بالحياة والمعارك السياسية وغيرها، كلها أمور محمودة تذكر لأصحابها بالخير إذا كانت في سبيله، ولكن أرجوكم لا تصنع منهم زعماء. المقدمة الطويلة هدفها التمهيد للحديث عن أحد رجلين هما الزعيمين الحقيقيين الوحيدين في تاريخنا، أولهما تحدثنا عنه من قبل وهو عبد الناصر وثانيهما نحاول اليوم إعطاءه حقه وهو سعد زغلول.

كأي زعيم قومي بدأ سعد زغلول حياته من أسفل السلم.. من قلب الوطن ومن قلب ريفه، ولو زرت مسقط رأسه الآن وبعد ميلاده بقرن ونصف لاستنكرت فكرة خروج أي شخص لامع من هذا المكان -لاحظ إننا نتحدث عن عصر الإنترنت لا عن عصر الكتاتيب التي كانت القاهرة فيه بالنسبة لسكان الريف كواشنطون بالنسبة لنا-. فكيف استطاع ابن رئيس مشيخة القرية الفلاح في مصر الطبقية أن يرتقي السلم ليصبح باشا ثم وزير ثم رئيس للوزراء ثم زعيم الأمة الخالد؟

الأمر يرتبط بالكثير من العوامل، يهمني في البداية أن أنحي الهبات الإلهية منها، فلو كان سعد باشا قد ارتكن على ما رآه في نفسه من سمات قيادية لكان قد عاش ومات دون أن نعلم عنه شيئا، العوامل الحقيقية لصعود الرجل الأسطوري ترتكز على قواعد ثلاثة، أولها هو التصاقه بجذوره، فالرجل الذي ذابت الملايين فيه عشقا ظل ليومه الأخير مؤمنا بهم.. مهتما بتفاصيل حياتهم.. ساعيا لنيل رضاهم ودعمهم في زمن كان الحديث عن حقوق الفلاحين وكسب رضاهم يعد دربا من السخف. القاعدة الثانية هي سعيه الدائم للتقدم والتعلم وترك بصمة، فحياة سعد زغلول سلسلة طويلة من الخطوات الصاعدة التي ترتبط كل خطوة فيها باكتسابه جدارة ترشحه للخطوة التالية لكنه لا يترك خطوته قبل أن يضيف إليها إضافات غير مسبوقة.

فعندما كان شابا يقضي يومه في مقهى متاتيا كسب ثقة رجال بهامة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومعهما دشن معنى الصحافة الوطنية الحقيقة وقيمة الكلمة في مواجهة الظلم، وعندما قرر العمل بالمحاماة أعلى شأنها من كونها مهنة من لا مهنة له لتصبح مهنة كبار الساسة والوزراء، ليحصل القروي على الباشوية ويصبح وزيرا، فيفتح آفاقا جديدا للتعليم بإنشاء الجامعة المصرية، ويصبح رئيسا للوزراء فيلفظ التفضل الملكي ويقود قضية البلاد مدعما بالتوكيلات، ليصبح أول زعيم حقيقي منتخب في تاريخ الأمة، وربما يكون الوحيد!

القاعدة الثالثة لأسطورة سعد زغلول هي إيمانه العظيم بفكرة القانون، ولا علاقة للأمر بوظيفته بل العكس هو الصحيح لأنه المدقق في تاريخ الرجل يكتشف إنه أصبح محاميا لتقديسه القانون من البداية لا العكس –وطبيعة عمله في الوقائع المصرية خير دليل-، فسعد باشا كان يعي جيدا قيمة القانون وقوته ودوامه أكثر من واضعيه، ويدرك أهمية الخطوة الصغيرة الدائمة مقابل الخطوة الكبيرة التي تزول بزوال صانعها –ولعل هذه هي الميزة التي تضعه في مرتبة أعلى من عبد الناصر-، فلم يعش بنفسه ليشهد قيمة عمله لكنه مهد الطريق لتحجيم سلطة الملك وإلغاء الامتيازات الأجنبية وإنعاش الحياية النيابية والبرلمانية المصرية، وبالطبع للجلاء البريطاني. مات سعد زغلول بعدما ألهم الملايين وحرك الثورة المصرية الحقيقية الأولى اعتمادا على القواعد الثلاثة: الالتصاق بالجذور، التقدم والإضافة للحياة، قيمة القانون والتشريع.

اخترت أن أكتب هذه السطور الآن لحاجة البلاد الشديدة لمثل هذه الزعامة الحقيقية، زعامة لا تقوم على الكاريزما، بل تقوم على الإيمان بمبدأ سيادة القانون والعمل على إقامته، وتعي جيدا معنى القيمة المضافة للمجتمع الذي تنتمي له، ربما بعد كل هذا يمكن أن نتعامل مع الكاريزما باعتبارها "هدية العدد" وليست موضوعه الأساسي!

Saturday, February 19, 2011

حلقة 33 - أم كلثوم

حلقة 33

أم كلثوم

30 ديسمير 1898 – 3 فبراير 1975

مسقط رأس: طماي الزهايرة – السنبلاوين – الدقهلية

لطالما راودني هاجس يتعلق بالمصريين، فمن الواضح تماما أن المصري إنسان ذكوري يضع كل الصفات الحسنة في إطار الرجولة، ولا يتورع أن يستخدم مصطلحات مثل "مَرَة" و"زي النسوان" كسُبة مهينة، وحتى عندما يريد أن يمدح سيدة فيقول عنها "بميت راجل"، وهو وصف وإن كان يعظّم صاحبه فهو يصم باقي بنات جنسها. العجيب أن المصريين ومع كل ما سبق وضعوا وطنهم دوما في صورة الأنثى، فكانت مصر في تراثنا المقروء والمسموع والمحكي هي المرأة والأم والحبيبة، وهي مفارقة تستحق التوقف خاصة مع شعب يعشق وطنه بهذا القدر.

يقول الرأي المحفوظ أن الوصف الأنثوي يتعلق بكون مصر هي السيدة الفريدة الخصبة الولود الحنون ذات المنح والعطايا التي لا تنتهي، وهو الرأي الذي يمكن تفنيده بسهولة إذا ما أردنا، ولكن الأهم من تفنيده هو الوصول للحقيقة التي توصلت لها عندما قارنت صورة مصر في أذهان أبناءها مع صورة السيدة التي تعد التجسيد الأمثل للوطن في نظر الكثير.. أم كلثوم التي قدّسها المصريون كما قدّسوا وطنهم فلم تعد مجرد مطربة هائلة الشعبية، بل أصبحت رمزا حقيقيا يشغل مكانة لم ولن يشغلها آخر في قلوب أبناء النيل.

النظرة الدقيقة والمقارنة توصلنا لحقيقة أن الصيغة الذكورية ما هي إلا غلاف خارجي لشيء متناقض.. ألوهية أنثوية تسيطر على المصريين.. نعم.. نحن شعب نعبد النساء، ولكن ليست أي نساء!

المصريون لا يقدسون الجواري المانحات بلا حدود، والواقع أن لا أحد يفعل "وحجم وطنية أبناء دول الخليج المانحة أبرز مثال"، والحقيقة أن مصر لم تكن أبدا مانحة بلا حدود، فتاريخنا يشهد أن الغالبية العظمى من المصريين لم يعيشوا أبدا في رغد وطنهم، كذلك لم تكن أم كلثوم مانحة بلا حدود، بل كانت مانحة ومانعة، تستفيد من إمتاعها للملايين بالسلطة والمال والنجومية وقبلها بحب الناس.

المصريون لا يقدسون مصر لأنها تأخذ دوما صفهم، فلطالما كانت مصر مطيعة للسادة من الفراعنة للمماليك للعسكر على حساب أبناءها، وكذلك كانت أم كلثوم هي مدّاحة كل عصر، تغني لفؤاد وفاروق وجمال وللملكية والاشتراكية، هذا التمنع الذي يجعل كليهما أكثر إثارة وإغراءا، ويجعلنا أكثر عشقا وتمنيا لنيل الرضا.

مصر ليست دولة فريدة لم يخلق الله مثلها في البلاد، وكذّبنا جميعا هيرودوت الذي رآها هبة النيل ورأيناها هبة أبناءها الذين عشقوها فصنعوا تاريخها، كذلك لم تكن أم كلثوم هبة صوتها الغير مسبوق.. انس هذا الأمر فالحقيقة أن هناك عشرات الأصوات الأجمل.. انس كذلك أساطير الأولين حول المايكروفون الذي لم يتحمل قوة صوتها، فهي حكاية إن صحت فلن تدل سوى على شيئين، أولهما سوء حالة مايكروفونات ذلك العصر، وثانيهما أن أي حمار كان ليأخذ مكانة أكبر من أم كلثوم بحكم قوة الصوت!.. أم كلثوم هي هبة من حولها، هبة قمم الكلمة واللحن الذين منحوها تراثا حقيقيا قادرا على إدخال أي مغن للتاريخ.

نحن لا نحب مصر لأنها الأجمل ولا لأنها تمنح بلا حساب، نحن نعشقها بكل ما فيها، بجمالها وقبحها ومنحها ومنعها، وتذوب قلوبنا هياما بمصر الأنثى الباهرة التي كثيرا ما تعطينا ظهرها وتلين لغيرنا. ونحن لا نحب أم كلثوم المطربة ذات الصوت الفريد التي دعمت المجهود الحربي، بل نحب أم كلثوم الفلاحة الخبيثة.. الأنثى اللعوب.. الماهرة في اللعب على كل الأوتار والنجاح في كل العصور.. نحب أم كلثوم الأنثى التي التف حولها أعظم مبدعي مصر.. شعراء وملحنين بهامة السحاب عشقوها ومنحوها أفضل ما عندهم طلبا للرضا والقبول، فأخذت المنح لتصنع بها أسطورتها، ثم أدارت لهم وجهها وتركتهم لتتزوج من طبيب!

Thursday, February 17, 2011

حلقة 32 - نجيب محفوظ

حلقة 32

نجيب محفوظ

11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006

مسقط رأس: الجمالية – القاهرة

مأزق شديد أن تحاول الكتابة عن رجل هو أكثر من سودت أوراق ودراسات ورسائل للكتابة عنه بين كل الكتاب العرب، وهو مأزق ذو جانبين متناقضين، أولهما صعوبة العثور عن جديد يمكن إضافته بعد هذا الكم من الشهادات والتحليلات، وثانيهما هو أن رجل بمثل هذا الزخم الأدبي والفكري يصعب مهما كانت بلاغتك أن تسطر ما يوفيه حقه في هذه المساحة المحدودة.

فبالإمكان أن أبدأ حديثي من جانب شخصي، لأتحدث عن نجيب محفوظ كاتب أول رواية حقيقية أقرأها بعد أعوام من إدمان روايات الجيب، وكانت بالتحديد رواية "خان الخليلي" التي أخذتني لعالم أدبي لم أكن أتصور وجوده، ليصير نجيب محفوظ إله الأدب الخاص بي، أكثر من يملك القدرة على إبهاري وإمتاعي والكاتب الوحيد الذي قرأت تقريبا كل سطر قام بكتابته على كثرة هذه الكتابات.

ويمكنني أيضا أن أتحدث من جانب حياتي فلسفي، باعتبار رحلة نجيب محفوظ هي التجسيد الأمثل لصراع الإبداع مع ما سواه، فالرجل الهادئ الملامح والطباع الفائر الموهبة اتخذ منذ اللحظة الأولى القرار الأصعب على أي مبدع: أن يكون الممثل الوحيد له هو عمله، أن يضع كامل هامه في أدبه ويحمله بكافة أفكاره وخبراته بل وهواجسه وصراعاته الداخلية، بعيدا عن اي دور خارج هذا النطاق، فلم يشغل نفسه للحظة وطوال سنوات عمره الطويل بأي أزمة أو صراع، والميل لأي جانب يجبره على اتخاذ مواقف عنيفة حتى ولو كانت هذه المواقف نبيلة أو في جانب الصواب، فلم يصطدم نجيب محفوظ بسلطة أو يخرح في مظاهرة ليس بسبب التخاذل "فأدبه خير دليل"، ولكن لقناعته التامة بأن هناك آلاف ممن يمكنهم تزعم المظاهرات، ولكن هناك شخص واحد فقط يمكنه أن يكون نجيب محفوظ.

ومن النقطة السابقة ننطلق لمفارقة كونه الشخص الوحيد في تاريخنا "ولا أريد أن أعمم فأقول في التاريخ" الذي يتعرض لمحاولة اغتيال بسبب الأدب، فكل محاولات الاغتيال التي كان هدفها أشخاص من حملة الأقلام كان العامل الأساسي فيها ليس النص الأدبي بل موقف الكاتب منه، فإصرار الكاتب على محتوى أدبه ودفاعه عنه هو عادة ما يحرك الرافضين ضده، ولكن في حالة نجيب محفوظ الفريدة لم يقم الرجل بالدفاع عن نصه، بل إن البعض يراه قد تهاون في واجبه تجاه عمله، وأعتقد أنا أنه قد أكمل واجبه الأدبي بإنهاء النص، فقرر تركه للتاريخ ليكون حكما على محتواه، وفضل عدم دخول معارك تعطله عن إنجاز العمل التالي، لذلك جاءت محاولة اغتياله نموذجا لرفض التطرف للاختلاف، حتى ولو كان صاحب هذا الاختلاف قد أرجأ الفصل إلى محكمة التاريخ الإنساني.

وبعد تفكير أعمق في أهم ما يمكن ذكره عن رجل بهامة نجيب محفوظ، وجدت أن أكبر إعجاز قد أتى به يكمن بالتحديد في أعماله وفي قيمتها وإسهامها في تاريخ الأدب العربي بشكل غير مسبوق في أي مجال إبداعي حول العالم، فالمؤرخون يؤمنون في أنك كي تقدم مجالا إبداعيا في مجتمع يجهل هذا المجال فإنك لابد وأن تحتاج إلى جيلين من المبدعين: جيل مؤسس يعرف أعضاء المجتمع على هذا النوع من الوسائط الإبداعية في صورتها الكلاسيكية، فيوسع قاعدة محبي هذا الفن "الرواية في حالتنا" ويصل لأبعد نقطة في السياق التقليدي له، ثم جيل آخر مجدد يدخل بالمجال الإبداعي لآفاق جديدة لم يتمكن المؤسسون من التطرق لها.

لهذا فإن نجيب محفوظ ينفرد لا بين أدباء العرب ولا مبدعين، بل بين مبدعي العالم بأسره أنه الوحيد الذي أسس وجدد، فكان من طليعة من أفهموا المصريين فكرة الرواية الكلاسيكية ونظريتها، بل يكاد عمل مثل الثلاثية أن يكون العمل الروائي الكلاسيكي الأعظم في تاريخ اللغة العربية، ثم قرر ببصيرة فاقت الجميع أن يخرج إلى أفق أرحب طرق فيه أبواب الصوفية والوجودية والفانتازيا والواقعية السحرية بخفة ونجاح لا يزال بعض كبار المجددين غير قادرين على تحقيقه.

Tuesday, February 15, 2011

حلقة 31 - حسب الله الكفراوي

حلقة 31

حسب الله الكفراوي

30 نوفبر 1930

مسقط رأس: كفر سليمان – كفر سعد – دمياط

أذكر في طفولتي وبالتحديد مع بدء معرفتي لأن هناك ما يدعى بالوزارات ومتابعتي باهتمام طفولي للكاريكاتير الإسبوعي في أخبار اليوم لفلاح كفر الهنادوة ورئيس الوزراء عاطف صدقي، أنني حاولت وقتها أن أعرف جميع أسماء الوزراء، وأنني دأبت على جمعها من الصحف اليومية، وأذكر جيدا أن بعض الأسماء قد علقت في ذهني ولا تزال حتى يومنا هذا، منهم وزير الداخلية عبد الحليم موسى "من باب ارتباط الأمر بعمل والدي"، ووزير التربية والتعليم حسين كامل بهاء الدين "من باب ارتباط الأمر بعمل والدتي"، ووزير الإعلام صفوت الشريف "بحكم ظهوره المستمر بجوار الرئيس في التلفزيون"، بالإضافة إلى ثلاثة وزراء كنت أراهم باستمرار في الصحف يتحدثون عن خططا ومشاريع وعلاقات لم أفهمها، الثلاثة كان حضورهم لافتا وصورهم مميزة بحيث يسهل تمييز أشكالهم بالنسبة لطفل في الثامنة أو التاسعة، كان الثلاثة هم وزير الخارجية عمرو موسى ووزير الكهرباء ماهر أباظة ووزير الإسكان حسب الله الكفرواي.

حتى هذه اللحظة كان الأمر مقتصرا على أشكال وجوههم على صفحات الجرائد، والتي سرعان ما اختفى من بينها وجه الكفراوي باستقالته عام 1993 بعد 17 عاما قضاها وزيرا في وزارة تغير اسمها وصلاحياتها في كل تشكيل وزاري جديد. وعندما كبرت قليلا وتمكنت أخيرا من القراءة والفهم والمقارنة، فهمت أن تمييز طفل ساذج للأسماء الثلاثة لم يكن مجرد توفيق شكلي، بل إن الأمر له علاقة "ودعني أخاطر بقولها" بمنحة إلهية للأشخاص الثلاثة تمثلت في أعمالهم وحب الناس لهم، وتوجت ببقاءهم في بلدهم مكرمين في ظل انهيار وهروب العديد والعديد من رموز النظام السابق الذي كان الوزراء الثلاثة جزءا منه "واستثني المهندس ماهر أباظة الذي توفي وسط تكريم رسمي وشعبي".

عاد الكفراوي ليكون ملء السمع والبصر مجددا بعد سقوط مبارك، وتسابقت الفضائيات للحصول على حوار مع الرجل الذي تخطى الثمانين والذي كان لسنوات طويلة بعيدا أو مبعدا عن الأضواء بفعل النظام المخلوع، وتداول الشباب ممن لم يكونوا يعلمون بوجود وزير حمل هذا الاسم تسجيلات لأقوال الكفرواي واعترافاته، والحقيقة أنني وقفت كثيرا محاولا فهم سر الشعبية التي اكتسبها الرجل خلال أيام أقل ما توصف به هو الزخم في مهاجمة النظام السابق ورصد أوجه الفساد فيه، فلو كان الكفراوي قد خرج بتصريحاته قبل شهر من الآن لكان طبيعيا أن ينال إعجابا يتعلق بكسره لحاجز الصمت وحديثه عما شاهده، لكن الآن ووسط هذا الكم الرهيب من لاعني مبارك وحكمه، لماذا أحب الناس الكفراوي؟

والحقيقة أنني توصلت لأكثر من سبب للأمر، السبب الأول هو شخصية الكفراوي نفسها، فالناس الذي تعودوا في الأعوام السابقة على حكومة رجال الأعمال وعلى الوزراء الذين يتحدثون عن عالم افتراضي يؤمنون وحدهم بوجوده، تعودوا على وزراء تفوح الأبهة من مظاهرهم ويحمل حديثهم عبق القصور التي يعيشون فيها، وجد الناس أنفسهم فجأة أمام فلاح دمياطي لم يتخلص طوال سنوات عمره من اللكنة الريفية ومن التفكير بطريقة رب الأسر البسيط، ومعه مذيع يقول لهم أن هذا الرجل كان وزيرا لقرابة العقدين من الزمان!

السبب الثاني هو عامل المفاجأة في أقوال الكفراوي، وتذكيره لنا بأرقام كنا قد نسينا وجودها على سطح الكوكب، تخيل معي شعور شاب يسمع للمرة الأولى أن طن الأسمنت كان ثمنه 90 جنيها، وطن الحديد 600 جنيها، وسعر المتر في السادس من اكتوبر 35 جنيها، وسعر الشقق 6 و14 ألف جنيه بالتقسيط على 27 عاما، وأن كل هذه الأرقام لم تكن في عصور ما قبل التاريخ، بل كانت في النصف الأول من التسعينيات!

السبب الثالث هو التهذيب الشديد وشموخ الكبار في حديث الكفراوي، فالرجل الذي أصبح بإمكانه سب الجميع وفضحهم بل والادعاء عليهم بما ليس فيهم دون أن يملك أحد تكذيبه، تمسك بنفس طريقته طوال السنوات الماضية، وهي أن يروي الوقائع دون ذكر اسماء القائمين بها، والإعلان عن استعداده للتصريح بالأسماء في التحقيقات الرسمية حتى يكون للشهادة معنى حقيقي، ولكنه التهذيب الذي لا يمنعه من أن يهاجم الفاسدين على طريقة الأب المصري، وأن يتمنى ضربهم بالجزم عقابا على ما اقترفوه، وفي التناقض تكمن مشاعر الرجل الشريف الذي لم تطل ذمته أي شبهة فساد، والذي يشعر بحجم جرم استغلال النفوذ، فيروي بفخر عن قيامه بنقل رئيس نقابة أراد سرقة الشعب إلى وظيفة عامل تشغيل بمحطة صرف صحي، لأنه يرى أن "الوسخ يجب أن يوضع في مكان يليق به"!

Saturday, November 27, 2010

حلقة 30 - محمد متولي الشعراوي

حلقة 30

محمد متولي الشعرواي

5 أبريل 1911 – 17 يونيو 1998

مسقط رأس: دقادوس – ميت غمر - الدقهلية

في تسجيل قديم ونادر أذاعته قناة "التلفزيون العربي" خلال أيام بثها المعدودة شاهدت الشيخ الشعراوي في شبابه يتحدث وهو جالس جلسته المعتادة عن أحد أكثر الموضوعات إثارة للجدل الديني في التاريخ: التسيير والتخيير، وبسلاسته المعهودة وضع إجابة تبدو وافية وشافية بكلمات معدودة معبرة، ثم انطلق ليختم حديثه بسرد حقيقة بديهية في العموم، شديدة الذكاء في سياقها، حيث قال: "خلق الله الكائنات، بشر وحيوان ونبات وجماد، واختار الإنسان ليجعله أكثر هذه الكائنات رقيا، ولكي يجعله هكذا ميزه بميزة واحدة: العقل".

ها هو الشيخ الجليل ومشواره البارز يفسر نفسه في مشهد لم يتخط الثلاث دقائق، تفسير جليّ لرجل دين استثنائي بكل ما تحمل الكلمة من معان. فالشعرواي أسطورة صنعها العقل، صنعها عقله الذي حباه الله بهذه القدرة على هضم النص والخروج منه بتفسير بديع قريب من القلب، يحمل من الجزالة والعمق نفس القدر الذي يحمله من البساطة واليسر، ويرتبط بصميم الدين بنفس قدر ارتباطه بحياة المستمعين وهمومهم اليومية.. تفسير له مذاق مختلف لم ولن يتواجد عند أحد غيره.

الشعراوي كان أسطورة عصره الدينية وهو يستحق، فهو هذا المزيج العجيب بين عالم الدين الأزهري التقليدي، والفلاح صاحب الحجة التي لا تخلو من دهاء، والأب الطيب الرؤوف بمن يحدثهم، والفيلسوف عميق الخبرة بالحياة، وعالم اللغة المتمكن من النص القرآني، وقبل كل هذا المصري المعجون بسمات إنسانية يصعب اجتماعها داخل أي شخص على وجه الأرض.

وكما كان الشعراوي أسطورة عصره فقد أيضا نتيجته وإفرازه، فهو النتيجة الطبيعية للبيئة المتفتحة بالفطرة التي نشأ فيها، والمجتمع المتعدد الذي دخله مبكرا، والوعي العام الذي كان ميالا لإعمال العقل. عصر كان فيه الرمز الديني هو ذا الرجل ذي الهيئة السمحة واللحية المصرية التقليدية، الجالس بجلباب أزهري متربعا بارتياح على منبر يتوسط أشخاص أتوا ليحدثهم بود في أمور تنطلق من الدين لتلتحم بحياتهم اليومية. ولعل الشعراوي ذاته لم يكن ليحقق أي نجاح يذكر في زمننا الحالي، بل ربما كان قد تعرض للسخرية والعداوة والاتهام. فزمننا الحالي يمتلك تصورا شديد الاختلاف للرمز الديني، تصورا يبدو الأقرب له رجل إما عابس الوجه أو مبتسم ببلاهة، يجلس وحيدا في استوديو تلفزيوني، معزولا عن الناس ولكنه غير قادر على منع نفسه من التشنّج عليهم، مصدرا دفعات متتالية من التصريحات والأحكام القاطعة، التي لا تعرف الفلسفة أو التدبر ولكنها تعرف الغلوّ والبلادة والارتباط الوثني بظواهر النصوص دون محاولة لإعمال العقل فيها. الشعرواي كان وليد عصره وأسطورته فهنئيا لهم به، وهنيئا لنا بعصرنا ورموزه!

Monday, November 22, 2010

حلقة 29 - سيد مكاوي

حلقة 29

سيد مكاوي

5 مايو 1926 – 21 أبريل 1997

مسقط رأس: الناصرية – السيدة زينب - القاهرة

هل الصوت البشري كائن له صفات؟ وهل يمكن أن يكون للصوت شخصية واضحة؟ وهل يمكن أن يكون هناك صوت مبهج بطبيعته دون أن يحتاج لأي كلمات يقولها؟ وهل من الجائز أن تسمع صوتا لتخيل صاحبه والابتسامة لا تفارق شفتيه؟ ابتسامة المحب العاشق لما يفعله، والمبدع الاستثنائي الذي يعلم أن كل الجالسين أمامه ينظرون له بحب وحتى لم يراهم، وصاحب المزاج الذي يغني لكي "يسلطن" نفسه قبل أي شخص آخر!

إذا كنت تشك في كل ما سبق فأنت ببساطة لم تحظ بمتعة سماع سيد مكاوي، أكثر من غنى في تاريخنا بهجة، وصاحب أجمل ابتسامة مسموعة، وصاحب البصمة الأوضح في الموسيقى المصرية. ليست البصمة الأوضح باعتبارها دشنت تيارا تاليا أو غيرت في شكل قديم، ولكنها الأوضح لأن سيد مكاوي هو الملحن الوحيد تقريبا الذي لا يمكن لأي مستمع أن يخطئ تمييز لحن له حتى ولو كان يسمعه للمرة الأولى، وعلى مدار تاريخنا الموسيقى العريض شهدنا العديد من المبدعين ممن فاقوه موهبة وإنتاجا، ولكنه يقف بينهم متوجا بامتلاك مشروع موسيقي حقيقي يجعله يبتعد كثيرا عن المقارنات لأنه باختصار لا يشبه أحدا ولا يمكن لأحد أن يشبهه.

السمة السابقة جعلت ألحان سيد مكاوي تمتاز بشيء فريد هو حضوره الدائم فيها بغض النظر عن المغني، ستستمع كثيرا بوردة في ألحان بليغ وعبد الوهاب لكن صوتها سيمحى من ذهنك وأنت تستمتع ل "أوقاتي بتحلو" أو "شعورى ناحيتك" ليضع عقلك تلقائيا صوت سيد مكاوي بدلا منه، وستستغرب وأنت تجد نفسك غير قادر على تمميز صوت صباح المليء بالدلع يغني "أنا هنا هنا يابن الحلال" من شخصية الرجل الضرير التي تقفز من داخل كل حرف في الاغنية، وستكتمل دائرة الدهشة عندما تجد أن (يا مسهرني) هي الأغنية الوحيدة في مشوار أم كلثوم التي تختلف تماما عن باقي مشروعها الغنائي، فسيد مكاوي ببساطة هو الشخص الوحيد الذي تمكن من استخدام أم كلثوم –وما أدراك ما هي- لتصبح مجرد محطة في مشروعه الموسيقى الفريد!

Wednesday, November 10, 2010

حلقة 28 - سعيد صالح

حلقة 28 – احتفالية المضحكين

(حلقة خاصة بقلم محمود السعدني)

سعيد صالح

21 يوليو 1938

مسقط رأس: القاهرة

"ويأتي بعد ذلك سعيد صالح في المقدمة من شلة العيال. وهو أخفهم دما، بل هو أخف دم مضحك على الإطلاق، وهو قادر على إضحاك الطوب بحركة أو يلفتة وبإشارة من إصبعه الصغير. ثم هو لأنه نجا بمعجزة من عملية حشو الرأس بشعارات المثقفين، ودعاوي الأدعياء! ولأنه نبيت شيطاني فهو ابن الطبيعة، وهو ممثل لأنه خلق ليحترف هذه المهنة، وهو يشترك مع علي الكسار في ميزة هامة هو أنه لا يتعمد التمثيل، ولكنه يتحرك على المسرح كما يتحرك في الشارع ويتكلم بين شلة من الأصدقاء المقربين. إنه الولد الأهبل المعبوط المنشرح الصدر المفكوك زراير البنطلون، صاحب الغفلة الحلوة، والمبهج لكل ما يحدث في الحياة من أفراح وأتراح ومصائب سودة وبلاوي متلتلة! ولو تعقل سعيد صالح قليلا، ولو انضبط قليلا في حياته وفي سلوكه، ولو ادخر كل جهده وكل قوته للعمل لانفجر مثل قنبلة زنة ألف رطل"

محمود السعدني – كتاب "المضحكون" – فصل "العيال"

حلقة 27 - حسن مصطفى

حلقة 27 – احتفالية المضحكين

(حلقة خاصة بقلم محمود السعدني)

حسن مصطفى

16 يونيو 1929

مسقط رأس: غير معروف

"وسترى حسن مصطفى دائما في دوره التقليدي دون أن تمل، لأنه لا يكرر ولا يقلد نفسه، بل هو قادر دائما على إضافة حركة جديدة تجعله جديدا أمام الناس وهو دائما وحتى في أتفه الأدوار سيجد لازمة تضحك من الأعماق، كحة، تفة، نظرة، همهمةن إشارة، المهم سيجد شيئا وأنك ستضحك على الدوام، ويا ميت خسارة على حسن مصطفى، لو وجد دورا يلائمه لبرز إلى المقدمة، ولكن سوء الحظ أوقعه في براثن فرقة الفنانين المتحدين، حيث يكون التركيز كله على النجوم الكبار وحيث يتعين على نجوم الوسط أن يبحثوا لأنفسهم عن موضع لقدم في الزفة!

ولكن الذي أريد أن اقوله أن حسن مصطفى لم يعثر على دور مناسب بعد. وإن امكانياته أغنى بكثير مما ظهر منها حتى الآن، وهو منجم لم يصل العمال إلى أعماقه، وبئر بترول لم تستغل إلا الطبقة الأولى منه، وهو كتاب لم تقرأ إلا بعض صفحاته! ولكني أخاف على حسن مصطفى من الخوف، فهو دائما خائف ومذعور من البطالة.. وهو لذلك يقبل أي دور وكل دور في سبيل أن يبقى شغالا كالطاحونة. وفي السينما لم يعثر على نفسه بعد لأنه جالس دائما إلى جوار التليفون في انتظار الأوردر!"

محمود السعدني – كتاب "المضحكون" – فصل "الظريف"