Monday, May 2, 2011

حلقة 34 - سعد زغلول

حلقة 33

سعد زغلول

يوليو 1858 – 23 أغسطس 1927

مسقط رأس: أبيانة – فوّه – كفر الشيخ

يعشق المصريون توزيع الألقاب في كل المجالات وعلى كل المستويات، وكلها بالطبع ألقاب تتعلم بسمات التفرد والشرف والقوة والفخر.. والزعامة!

لم أفهم أبدا هذا الإفراط في نعت السياسيين بالزعماء، ولم أجد أي تبرير منطقي لاعتبار أي رئيس وأي قائد بل وأي ناشط زعيما، وأندهش في كل مرة أقرأ فيها سطورا تصف ناشطا وطنيا مثل محمد فريد بالزعامة لا لشيء سوى لتضحيته بأمواله من أجل قضية الاستقلال، فمع كامل احترامي لشخص الرجل ولإيمانه بالقضية، ولكن الاستغناء عن الثروة لا علاقة له من قريب أو بعيد بالزعامة، ولا يضمن لصاحبه أي نوع من الحفاوة الشعبية أو القيمة القيادية، مثله مثل التضحية بالحياة والمعارك السياسية وغيرها، كلها أمور محمودة تذكر لأصحابها بالخير إذا كانت في سبيله، ولكن أرجوكم لا تصنع منهم زعماء. المقدمة الطويلة هدفها التمهيد للحديث عن أحد رجلين هما الزعيمين الحقيقيين الوحيدين في تاريخنا، أولهما تحدثنا عنه من قبل وهو عبد الناصر وثانيهما نحاول اليوم إعطاءه حقه وهو سعد زغلول.

كأي زعيم قومي بدأ سعد زغلول حياته من أسفل السلم.. من قلب الوطن ومن قلب ريفه، ولو زرت مسقط رأسه الآن وبعد ميلاده بقرن ونصف لاستنكرت فكرة خروج أي شخص لامع من هذا المكان -لاحظ إننا نتحدث عن عصر الإنترنت لا عن عصر الكتاتيب التي كانت القاهرة فيه بالنسبة لسكان الريف كواشنطون بالنسبة لنا-. فكيف استطاع ابن رئيس مشيخة القرية الفلاح في مصر الطبقية أن يرتقي السلم ليصبح باشا ثم وزير ثم رئيس للوزراء ثم زعيم الأمة الخالد؟

الأمر يرتبط بالكثير من العوامل، يهمني في البداية أن أنحي الهبات الإلهية منها، فلو كان سعد باشا قد ارتكن على ما رآه في نفسه من سمات قيادية لكان قد عاش ومات دون أن نعلم عنه شيئا، العوامل الحقيقية لصعود الرجل الأسطوري ترتكز على قواعد ثلاثة، أولها هو التصاقه بجذوره، فالرجل الذي ذابت الملايين فيه عشقا ظل ليومه الأخير مؤمنا بهم.. مهتما بتفاصيل حياتهم.. ساعيا لنيل رضاهم ودعمهم في زمن كان الحديث عن حقوق الفلاحين وكسب رضاهم يعد دربا من السخف. القاعدة الثانية هي سعيه الدائم للتقدم والتعلم وترك بصمة، فحياة سعد زغلول سلسلة طويلة من الخطوات الصاعدة التي ترتبط كل خطوة فيها باكتسابه جدارة ترشحه للخطوة التالية لكنه لا يترك خطوته قبل أن يضيف إليها إضافات غير مسبوقة.

فعندما كان شابا يقضي يومه في مقهى متاتيا كسب ثقة رجال بهامة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومعهما دشن معنى الصحافة الوطنية الحقيقة وقيمة الكلمة في مواجهة الظلم، وعندما قرر العمل بالمحاماة أعلى شأنها من كونها مهنة من لا مهنة له لتصبح مهنة كبار الساسة والوزراء، ليحصل القروي على الباشوية ويصبح وزيرا، فيفتح آفاقا جديدا للتعليم بإنشاء الجامعة المصرية، ويصبح رئيسا للوزراء فيلفظ التفضل الملكي ويقود قضية البلاد مدعما بالتوكيلات، ليصبح أول زعيم حقيقي منتخب في تاريخ الأمة، وربما يكون الوحيد!

القاعدة الثالثة لأسطورة سعد زغلول هي إيمانه العظيم بفكرة القانون، ولا علاقة للأمر بوظيفته بل العكس هو الصحيح لأنه المدقق في تاريخ الرجل يكتشف إنه أصبح محاميا لتقديسه القانون من البداية لا العكس –وطبيعة عمله في الوقائع المصرية خير دليل-، فسعد باشا كان يعي جيدا قيمة القانون وقوته ودوامه أكثر من واضعيه، ويدرك أهمية الخطوة الصغيرة الدائمة مقابل الخطوة الكبيرة التي تزول بزوال صانعها –ولعل هذه هي الميزة التي تضعه في مرتبة أعلى من عبد الناصر-، فلم يعش بنفسه ليشهد قيمة عمله لكنه مهد الطريق لتحجيم سلطة الملك وإلغاء الامتيازات الأجنبية وإنعاش الحياية النيابية والبرلمانية المصرية، وبالطبع للجلاء البريطاني. مات سعد زغلول بعدما ألهم الملايين وحرك الثورة المصرية الحقيقية الأولى اعتمادا على القواعد الثلاثة: الالتصاق بالجذور، التقدم والإضافة للحياة، قيمة القانون والتشريع.

اخترت أن أكتب هذه السطور الآن لحاجة البلاد الشديدة لمثل هذه الزعامة الحقيقية، زعامة لا تقوم على الكاريزما، بل تقوم على الإيمان بمبدأ سيادة القانون والعمل على إقامته، وتعي جيدا معنى القيمة المضافة للمجتمع الذي تنتمي له، ربما بعد كل هذا يمكن أن نتعامل مع الكاريزما باعتبارها "هدية العدد" وليست موضوعه الأساسي!

No comments:

Post a Comment