Thursday, February 17, 2011

حلقة 32 - نجيب محفوظ

حلقة 32

نجيب محفوظ

11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006

مسقط رأس: الجمالية – القاهرة

مأزق شديد أن تحاول الكتابة عن رجل هو أكثر من سودت أوراق ودراسات ورسائل للكتابة عنه بين كل الكتاب العرب، وهو مأزق ذو جانبين متناقضين، أولهما صعوبة العثور عن جديد يمكن إضافته بعد هذا الكم من الشهادات والتحليلات، وثانيهما هو أن رجل بمثل هذا الزخم الأدبي والفكري يصعب مهما كانت بلاغتك أن تسطر ما يوفيه حقه في هذه المساحة المحدودة.

فبالإمكان أن أبدأ حديثي من جانب شخصي، لأتحدث عن نجيب محفوظ كاتب أول رواية حقيقية أقرأها بعد أعوام من إدمان روايات الجيب، وكانت بالتحديد رواية "خان الخليلي" التي أخذتني لعالم أدبي لم أكن أتصور وجوده، ليصير نجيب محفوظ إله الأدب الخاص بي، أكثر من يملك القدرة على إبهاري وإمتاعي والكاتب الوحيد الذي قرأت تقريبا كل سطر قام بكتابته على كثرة هذه الكتابات.

ويمكنني أيضا أن أتحدث من جانب حياتي فلسفي، باعتبار رحلة نجيب محفوظ هي التجسيد الأمثل لصراع الإبداع مع ما سواه، فالرجل الهادئ الملامح والطباع الفائر الموهبة اتخذ منذ اللحظة الأولى القرار الأصعب على أي مبدع: أن يكون الممثل الوحيد له هو عمله، أن يضع كامل هامه في أدبه ويحمله بكافة أفكاره وخبراته بل وهواجسه وصراعاته الداخلية، بعيدا عن اي دور خارج هذا النطاق، فلم يشغل نفسه للحظة وطوال سنوات عمره الطويل بأي أزمة أو صراع، والميل لأي جانب يجبره على اتخاذ مواقف عنيفة حتى ولو كانت هذه المواقف نبيلة أو في جانب الصواب، فلم يصطدم نجيب محفوظ بسلطة أو يخرح في مظاهرة ليس بسبب التخاذل "فأدبه خير دليل"، ولكن لقناعته التامة بأن هناك آلاف ممن يمكنهم تزعم المظاهرات، ولكن هناك شخص واحد فقط يمكنه أن يكون نجيب محفوظ.

ومن النقطة السابقة ننطلق لمفارقة كونه الشخص الوحيد في تاريخنا "ولا أريد أن أعمم فأقول في التاريخ" الذي يتعرض لمحاولة اغتيال بسبب الأدب، فكل محاولات الاغتيال التي كان هدفها أشخاص من حملة الأقلام كان العامل الأساسي فيها ليس النص الأدبي بل موقف الكاتب منه، فإصرار الكاتب على محتوى أدبه ودفاعه عنه هو عادة ما يحرك الرافضين ضده، ولكن في حالة نجيب محفوظ الفريدة لم يقم الرجل بالدفاع عن نصه، بل إن البعض يراه قد تهاون في واجبه تجاه عمله، وأعتقد أنا أنه قد أكمل واجبه الأدبي بإنهاء النص، فقرر تركه للتاريخ ليكون حكما على محتواه، وفضل عدم دخول معارك تعطله عن إنجاز العمل التالي، لذلك جاءت محاولة اغتياله نموذجا لرفض التطرف للاختلاف، حتى ولو كان صاحب هذا الاختلاف قد أرجأ الفصل إلى محكمة التاريخ الإنساني.

وبعد تفكير أعمق في أهم ما يمكن ذكره عن رجل بهامة نجيب محفوظ، وجدت أن أكبر إعجاز قد أتى به يكمن بالتحديد في أعماله وفي قيمتها وإسهامها في تاريخ الأدب العربي بشكل غير مسبوق في أي مجال إبداعي حول العالم، فالمؤرخون يؤمنون في أنك كي تقدم مجالا إبداعيا في مجتمع يجهل هذا المجال فإنك لابد وأن تحتاج إلى جيلين من المبدعين: جيل مؤسس يعرف أعضاء المجتمع على هذا النوع من الوسائط الإبداعية في صورتها الكلاسيكية، فيوسع قاعدة محبي هذا الفن "الرواية في حالتنا" ويصل لأبعد نقطة في السياق التقليدي له، ثم جيل آخر مجدد يدخل بالمجال الإبداعي لآفاق جديدة لم يتمكن المؤسسون من التطرق لها.

لهذا فإن نجيب محفوظ ينفرد لا بين أدباء العرب ولا مبدعين، بل بين مبدعي العالم بأسره أنه الوحيد الذي أسس وجدد، فكان من طليعة من أفهموا المصريين فكرة الرواية الكلاسيكية ونظريتها، بل يكاد عمل مثل الثلاثية أن يكون العمل الروائي الكلاسيكي الأعظم في تاريخ اللغة العربية، ثم قرر ببصيرة فاقت الجميع أن يخرج إلى أفق أرحب طرق فيه أبواب الصوفية والوجودية والفانتازيا والواقعية السحرية بخفة ونجاح لا يزال بعض كبار المجددين غير قادرين على تحقيقه.

No comments:

Post a Comment