Saturday, May 28, 2011

حلقة 36 - أسامة أنور عكاشة

حلقة 36

أسامة أنور عكاشة

27 يوليو 1941 – 28 مايو 2010

مسقط رأس: طنطا - الغربية لأسرة من محافظة كفر الشيخ

في هدوء وتجاهل كبيرين تمر اليوم الذكرى السنوية الأولى لوفاة إمام كتاب الدراما التلفزيونية العربية أسامة أنور عكاشة، لتتسبب الأحداث الصاخبة في تناسي ذكرى عملاق تحتاج قيمته وتأثيره الفني والاجتماعي للكثير من الدراسات ليمكن إدعاء الإلمام بها، لذا فإن التناول التالي ما هو إلا محاولة بسيطة لقراءة سيرة مولانا عكاشة كأقل هدية يمكن أن تقدم لذكراه، قراءة حاولت أن أوجزها في أربع نقاط مركزة..

أولا.. تنبع قيمة عكاشة بالأساس من كونه مؤسسا لفن كامل إسمه الدراما التلفزيونية العربية، وأزعم هنا إنه فن مستقل بذاته تماما عن فن الدراما التلفزيونية حول العالم، فالدراما الأمريكية والأوروبية والآسيوية (والأمر هنا معقد ويحتاج لدراسة أكثر تفصيلا) تدور في فلك بعض الأشكال البنيوية والموضوعية التي لا يقع من ضمنها على الإطلاق صورة "الرواية الدرامية الاجتماعية المكثفة ذات الطول فوق المتوسط" التي كان أسامة أنور عكاشة هو مطلقها، فلا هي يمكن اعتبارها ضمن "أوبرا الصابون" الأمريكية الرخيصة المعتمدة على الطول المفرط شكلا والعلاقات العاطفية موضوعا، ولا هي ضمن "المسلسلات السينمائية" التي يتمد تمديد مدتها طبقا لنجاحها ولتعقد حبكتها التي تكون أكثر تشويقا في صورته المجردة من الموضوعات العكاشية المائلة للدراما الاجتماعية.

فعكاشة هو الأب الروحي لفن لم يعرفه العالم خارج إطار الوطن العربي، وهو الفن الذي شهد بعض الإرهاصات مع نشأة التلفزيون المصري، ولكنه ما كان ليحقق هذا النجاح والانتشار الهائل مالم يهبه الله رسولا كأسامة أنور عكاشة، وقد أجاب صديقي السيناريست الموهوب محمد أمين راضي عن التساؤل الذي طرحه البعض عن مدى قدرة دراما عكاشة على النجاح إذا ما كان الرجل قد بدأ حياته في ظل مثل هذا الانفجار التلفزيوني الحالي، فكان الرد الوافي هو إن لولا وجود عكاشة لما كان هذا المولد التلفزيوني قد وجد من الأساس، ولكان هذا الشكل المصري تماما من الدراما التلفزيونية قد انقرض مثل الكثير من تجارب الشكل البرامجي المرتبطة بسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بل إن بإمكاننا تحميل عكاشة ذنب المستوى السيئ للدراما الحالية لأن نجاحه فتح الباب للكثير من محدودي ومعدومي الموهبة الذين حاولوا تكرار تجربته دون أن يمتلكوا الأدوات الإبداعية اللازمة.

ثانيا.. قد نختلف أو نتفق مع أسامة أنور عكاشة الشخص والمؤلف، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر حالة الاتساق الكامل بين الرجل وأعماله، فهو الصورة الأمثل للكاتب "صاحب المشروع"، الكاتب الذي اختار من يومه الأول أن يكون محللا ومحاميا وناقدا للشخصية المصرية وبناها الاجتماعي، والتزم حتى يومه الأخير بهذا الاختيار الذي تحول مع تراكم الخبرات إلى كائن فني حي يمتلك ضميرا وإرادة خاصة به، جعلت صاحبه حتى نهاية عمره لا يصنف إلا طبقا لقناعاته الخاصة، ولا تشوبه أي شائبة إنتماء أو تواطؤ مع أي جهة بخلاف الجهة العكاشية، ليكون مبدعا اكتفى بسلاح موهبته ودأبه ليحفر به اسمه في تاريخ المجتمع المصري، دون أن يحتاج لإبرام أي صفقات أو الحصول على أي استثناءات سلطوية.. وهو مشوار طويل وشاق لكنه انتهى بتتويجه ملكا متوجا لكتاب الدراما المصريين، بصورة تصعّب المهمة على أي كاتب يسعى للحصول على شهرة وتقدير مماثلين.

ثالثا.. يمثل عكاشة صورة مثالية لتضافر الموهبة بالصنعة، والشعبية بالتجريب، فعلى مدار مشواره الطويل تجد الكثير من المتناقضات، من مسلسل اقتربت حلقاته من 150 حلقة كليالي الحلمية إلى مسلسلات لا تتجاوز حيز ال15 حلقة كالراية البيضا والنوّة، ومن أعمال معتمدة بشكل كامل على تيمة شعبية وبناء كلاسيكي كضمير أبلة حكمت إلى أعمال تنحو إلى التجريب المفرط في السرد والإيقاع كأنا وانت وبابا في المشمش وعصفور النار، التناقض الذي يوضح الروح الفنية المتقدة التي امتلكها عكاشة، الراغبة في تحقيق كل أحلام الفنان من الشهرة والجماهيرية إلى الابتكار والإضافة إلى تراكم التاريخ الفني.

رابعا.. نوع آخر من التناقض تراه إذا ما حاولت تصنيف أعماله، لتكتشف إن المشروع العكاشي ليس بسيطا كما يتبدى لغير المدقق، بل إنه مشروع مركب يضم ثلاثة اتجاهات واضحة (والتصنيف هنا لمحمد أمين راضي مجددا)، تتشابه في بعض الأمور وتتنافر تماما في البعض الآخر، فالاتجاه الأول هو الدراما "الدون كيشوتية" الشخصية بالأساس، التي تعتمد على وجود بطل نبيل يواجه مشكلات العالم الخارجي، وعلى رأس هذا الاتجاه بالطبع أبو العلا البشري الذي زينت صورة دون كيشوت تتراته وكذلك ضمير أبلة حكمت وأمرأة من زمن الحب، أما الاتجاه الثاني فعلى العكس هو اتجاه تحليلي بطله الزمان، يعتمد بالأساس على تثبيت الشخوص والمكان وتحريك الزمن لتحليل الحراك المجتمعي بشكل "شبه علمي"، والصورة الأوضح لهذا الاتجاه هو عمله الأيقوني ليالي الحلمية وكذلك الشهد والدموع، أما الاتجاه الثالث والأخير –طبقا لتوقيت ظهوره في المشروع- فهو اتجاه البحث في الهوية ومحاولة فهم الشخصية المصرية، وهو الاتجاه الذي شغل عكاشة بأكبر قدر خلال العقدين الأخيرين من حياته، فأفرز عملا بديعا اسمه أرابيسك ومشروعين ضخمين لم يمهله العمر الوقت الكافي لإتمامهما هما زيزينيا والمصراوية.

لكل نقطة من الأربعة السابقين دورا في تكوين أسطورة أسامة أنور عكاشة، ومع تراكمها في أذهان المصريين عبر سنوات نشاطه الفني كان لابد وأن تحدث الكثير من التغييرات في كل من وما حولها، بداية من تأثيرها على وسط الإنتاج التلفزيوني مثلما أشرت في نقطة سابقة، إلى تأثيرها على وعي الجمهور الذي اختار عكاشة ليكون مؤلفه المفضل، إلى تأثيره في الفن والأدب المصري بشكل عام، فببساطة تامة يمكننا أن نقول إن أسامة أنور عكاشة هو الذي ارتقى بفن الدراما التلفزيونية ونقاه من الشوائب، ثم ارتفع به ليبلغ مصاف الأدب المرئي أو الواقعية السحرية التلفزيونية، وهو ابن المجتمع المصري البار الذي صنع تاريخا يصعب مقاربته.

Friday, May 13, 2011

حلقة 35 - كمال الشيخ

حلقة 35

كمال الشيخ

5 فبراير 1919 – 2 يناير 2004

مسقط رأس: حلوان - القاهرة

لو سألت مائة شخص من العاملين في السينما ومحبيها عن أفضل عشرة مخرجين في تاريخ السينما المصرية فستتكرر أسماء مثل يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وعاطف الطيب ومحمد خان، يليها أسماء مثل رأفت الميهي وخيري بشارة وهنري بركات وعلي بدرخان، وقد يميل البعض للمعاصرة فيختارون أسامة فوزي أو يسري نصرالله أو هاني خليفة، وبالطبع سيتجه اختيار "المُثقفين" إلى شادي عبد السلام وربما توفيق صالح، ولكن وسط كل هذا الزخم من الأسماء المختلفة في هامتها وأهميتها والمتفقة في تأثيرها وتفردها، سينسى العدد الأكبر ذكر اسم كمال الشيخ، ربما يذكره البعض على استحياء ولكن تأكد إن تجميع عدد الأصوات لن يضعه ضمن أفضل عشرة أسماء، وهو الأمر الذي سيجعل هذه القائمة ببساطة بحاجة إلى التمزيق والإلقاء في أقرب صفيحة للقمامة.

ولقد توقفت كثيرا محاولا التفكير في سر هذا الإهمال والتجاهل المنهجي الذي يتعرض له الراحل كمال الشيخ بعد أعوام قليلة على وفاته، بل والذي تعرض له خلال 17 عاما كاملة قبل وفاته لم يقدم فيها أي عمل في وقت قدم فيه أشخاص أقل ما يوصفون به إنهم جهلة عشرات الأعمال، وسر حيرتي إزاء هذا الموقف الغريب إن سينما كمال الشيخ لم تكن أبدا من النوع الطارد للإنتاج، بمعني أنني أتفهم تماما ابتعاد رجل كتوفيق صالح عن العمل في ظل آليات سوق لن تسمح له بتقديم الشرائط الذهنية المأدلجة الذي اعتاد تقديمها، ولكن أن يجلس رجل لُقب يوما بهيتشكوك العرب من فرط تمكنه من صنعة الإثارة والتشويق فهذا أمر محير. –وأسجل هنا اعتراضي على تشبيه كمال الشيخ بهيتشكوك لأن فيها حسب رأيي تقليل من شأنه ,الشيخ لا هيتشكوك!

بعد تفكير ومحاولة لاستقراء منهج مجتمع السينما المصري وطريقة تفكير أفراده توصلت إلى إن أسباب عظمة كمال الشيخ هي ذاتها أسباب التجاهل والتهميش الذي يتعرض له بشكل منتظم، فالحقيقة إن السينمائيين المصرين من كتاب ومخرجين ونقاد بل ومشاهدين قد اعتادوا بشكل عام –وهناك استثناءات بالطبع- على تقسيم الأعمال السينمائية إلى فئتين عريضتين: الأعمال التجارية والأعمال الفنية، وفي قول آخر أفلام الشباك وأفلام المهرجانات، وفي قول ثالث أفلام الجماهير وأفلام المثقفين، وكان الدأب الدائم هو الفصل الكامل بين الفئتين، ووضع تصورات لأفلام كل فئة يصعب تجاوزها، فأفلام الشباك ممتعة ومثيرة وخفيفة الظل، ولكنها خفيفة المضمون أيضا لا تهدف سوى لمقايضة أموال المشاهد بساعتين يقضيهم سعيدا، أم الأفلام النخبوية فهي في الغالب أفلام معقدة محشوة بالأفكار عسيرة الفهم ولا يشكل الاستمتاع بمشاهدتها أي حيز من اهتمام صناعها، وأكرر هنا إن هذا هو الوضع السائد مع وجود استثناءات دائمة.

وبالوقت خلق كل اتجاه عدد ضخم من المريدين والمروجين له، يعتمد كل جانب منهم بالأساس على السخرية من الآخر كمصدر لشرعيته، فدعاة السينما التجارية يتحدثون عن التسلية والترفيه وإتقان الصنعة ويسخرون من الأفكار العميقة واللغة السينمائية المعقدة في الجانب الآخر، بينما يتحدث أنصار السينما الفنية عن الإبداع النخبوي ساخرين من التردي والسطحية في أفلام التجاريين، وعندما يصبح الصراع بهذا التطرف كان لابد وأن يكون الضحية شخص مثل كمال الشيخ لأنه ببساطة يهدم بأعماله آراء الجانبين ويسخر من جمودهم وتشدقهم، فهو الذي أثبت "في مرحلة مبكرة للغاية من عمر السينما المصرية" إن القيمة الفنية والفكرية العالية لا تتعارض إطلاقا مع التشويق والجماهيرية، بل وأن صانع الأفلام المتمكن قادر على أن يجعل ارتباطهما طرديا، فأكثر أفلامه إثارة وجاذبية للجمهور هي نفسها أعلى أفلامه قيمة وأثراها فنا.

لاحظ إننا نتحدث عن مخرج بدأ العمل في خمسينيات القرن الماضي، في وقت لم يكن فن السينما في مصر قد تمايز من الأساس عن باقي الفنون بصورة تسمح بأن يكون له ملامح واضحة، ليصنع فيلم مثل "حياة أو موت" ليؤسس به لفكرة السينما الشعبية القادرة على تحدي الزمن، تحدي زمن إنتاجها بصنع فيلم للمرة الأولى يتراجع فيه دور النجم كثيرا لتصبح البطولة للمدينة، ويتحدى زمننا الحالي بقدرته على المواصلة لتشاهده بنفس المتعة بعد أكثر من نصف قرن.. فيلم يمتاز بلغة سرد شديدة التماسك بدرجة تجعل من المستحيل أن تبدأ المشاهدة دون أن تنهي الفيلم الذي لا تتجاوز مدته الساعة والربع "وهو في حد ذاته تحطيم لفكرة سائدة حتى الآن تتعلق بالحد الأدنى لزمن الفيلم"..

على هذا المنوال استمرت مسيرة كمال الشيخ السينمائية، ليقدم لأرشيف السينما المصرية عدد ضخم من الأعمال التي يجمع معظمها بين الحسنيين: الشعبية والفن، بالإضافة للقدرة على الاستمرار.. ويمكنك أن تشاهد أفلام مثل "الخائنة" و"على من نطلق الرصاص" و"غروب وشروق" لتفهم سر عظمة الرجل التي شكلت مأزقا لكل من يحاول الدفاع عن رؤية سينمائية متطرفة، لأنه يقول ببساطة لدعاة السينما التجارية إن دفاعكم عن أفلام ضعيفة لا ينم سوى عن عجزكم عن تقديم الأفضل، ولدعاة سينما النقاد والمهرجانات إن تشدقكم سببه الفشل في الوصول للجماهير، فكانت النتيجة هو نسيانه حيا وميتا، والاحتفاء بمن هم أقل منه قدرا وموهبة وتأثيرا.

Monday, May 2, 2011

حلقة 34 - سعد زغلول

حلقة 33

سعد زغلول

يوليو 1858 – 23 أغسطس 1927

مسقط رأس: أبيانة – فوّه – كفر الشيخ

يعشق المصريون توزيع الألقاب في كل المجالات وعلى كل المستويات، وكلها بالطبع ألقاب تتعلم بسمات التفرد والشرف والقوة والفخر.. والزعامة!

لم أفهم أبدا هذا الإفراط في نعت السياسيين بالزعماء، ولم أجد أي تبرير منطقي لاعتبار أي رئيس وأي قائد بل وأي ناشط زعيما، وأندهش في كل مرة أقرأ فيها سطورا تصف ناشطا وطنيا مثل محمد فريد بالزعامة لا لشيء سوى لتضحيته بأمواله من أجل قضية الاستقلال، فمع كامل احترامي لشخص الرجل ولإيمانه بالقضية، ولكن الاستغناء عن الثروة لا علاقة له من قريب أو بعيد بالزعامة، ولا يضمن لصاحبه أي نوع من الحفاوة الشعبية أو القيمة القيادية، مثله مثل التضحية بالحياة والمعارك السياسية وغيرها، كلها أمور محمودة تذكر لأصحابها بالخير إذا كانت في سبيله، ولكن أرجوكم لا تصنع منهم زعماء. المقدمة الطويلة هدفها التمهيد للحديث عن أحد رجلين هما الزعيمين الحقيقيين الوحيدين في تاريخنا، أولهما تحدثنا عنه من قبل وهو عبد الناصر وثانيهما نحاول اليوم إعطاءه حقه وهو سعد زغلول.

كأي زعيم قومي بدأ سعد زغلول حياته من أسفل السلم.. من قلب الوطن ومن قلب ريفه، ولو زرت مسقط رأسه الآن وبعد ميلاده بقرن ونصف لاستنكرت فكرة خروج أي شخص لامع من هذا المكان -لاحظ إننا نتحدث عن عصر الإنترنت لا عن عصر الكتاتيب التي كانت القاهرة فيه بالنسبة لسكان الريف كواشنطون بالنسبة لنا-. فكيف استطاع ابن رئيس مشيخة القرية الفلاح في مصر الطبقية أن يرتقي السلم ليصبح باشا ثم وزير ثم رئيس للوزراء ثم زعيم الأمة الخالد؟

الأمر يرتبط بالكثير من العوامل، يهمني في البداية أن أنحي الهبات الإلهية منها، فلو كان سعد باشا قد ارتكن على ما رآه في نفسه من سمات قيادية لكان قد عاش ومات دون أن نعلم عنه شيئا، العوامل الحقيقية لصعود الرجل الأسطوري ترتكز على قواعد ثلاثة، أولها هو التصاقه بجذوره، فالرجل الذي ذابت الملايين فيه عشقا ظل ليومه الأخير مؤمنا بهم.. مهتما بتفاصيل حياتهم.. ساعيا لنيل رضاهم ودعمهم في زمن كان الحديث عن حقوق الفلاحين وكسب رضاهم يعد دربا من السخف. القاعدة الثانية هي سعيه الدائم للتقدم والتعلم وترك بصمة، فحياة سعد زغلول سلسلة طويلة من الخطوات الصاعدة التي ترتبط كل خطوة فيها باكتسابه جدارة ترشحه للخطوة التالية لكنه لا يترك خطوته قبل أن يضيف إليها إضافات غير مسبوقة.

فعندما كان شابا يقضي يومه في مقهى متاتيا كسب ثقة رجال بهامة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومعهما دشن معنى الصحافة الوطنية الحقيقة وقيمة الكلمة في مواجهة الظلم، وعندما قرر العمل بالمحاماة أعلى شأنها من كونها مهنة من لا مهنة له لتصبح مهنة كبار الساسة والوزراء، ليحصل القروي على الباشوية ويصبح وزيرا، فيفتح آفاقا جديدا للتعليم بإنشاء الجامعة المصرية، ويصبح رئيسا للوزراء فيلفظ التفضل الملكي ويقود قضية البلاد مدعما بالتوكيلات، ليصبح أول زعيم حقيقي منتخب في تاريخ الأمة، وربما يكون الوحيد!

القاعدة الثالثة لأسطورة سعد زغلول هي إيمانه العظيم بفكرة القانون، ولا علاقة للأمر بوظيفته بل العكس هو الصحيح لأنه المدقق في تاريخ الرجل يكتشف إنه أصبح محاميا لتقديسه القانون من البداية لا العكس –وطبيعة عمله في الوقائع المصرية خير دليل-، فسعد باشا كان يعي جيدا قيمة القانون وقوته ودوامه أكثر من واضعيه، ويدرك أهمية الخطوة الصغيرة الدائمة مقابل الخطوة الكبيرة التي تزول بزوال صانعها –ولعل هذه هي الميزة التي تضعه في مرتبة أعلى من عبد الناصر-، فلم يعش بنفسه ليشهد قيمة عمله لكنه مهد الطريق لتحجيم سلطة الملك وإلغاء الامتيازات الأجنبية وإنعاش الحياية النيابية والبرلمانية المصرية، وبالطبع للجلاء البريطاني. مات سعد زغلول بعدما ألهم الملايين وحرك الثورة المصرية الحقيقية الأولى اعتمادا على القواعد الثلاثة: الالتصاق بالجذور، التقدم والإضافة للحياة، قيمة القانون والتشريع.

اخترت أن أكتب هذه السطور الآن لحاجة البلاد الشديدة لمثل هذه الزعامة الحقيقية، زعامة لا تقوم على الكاريزما، بل تقوم على الإيمان بمبدأ سيادة القانون والعمل على إقامته، وتعي جيدا معنى القيمة المضافة للمجتمع الذي تنتمي له، ربما بعد كل هذا يمكن أن نتعامل مع الكاريزما باعتبارها "هدية العدد" وليست موضوعه الأساسي!