Saturday, February 19, 2011

حلقة 33 - أم كلثوم

حلقة 33

أم كلثوم

30 ديسمير 1898 – 3 فبراير 1975

مسقط رأس: طماي الزهايرة – السنبلاوين – الدقهلية

لطالما راودني هاجس يتعلق بالمصريين، فمن الواضح تماما أن المصري إنسان ذكوري يضع كل الصفات الحسنة في إطار الرجولة، ولا يتورع أن يستخدم مصطلحات مثل "مَرَة" و"زي النسوان" كسُبة مهينة، وحتى عندما يريد أن يمدح سيدة فيقول عنها "بميت راجل"، وهو وصف وإن كان يعظّم صاحبه فهو يصم باقي بنات جنسها. العجيب أن المصريين ومع كل ما سبق وضعوا وطنهم دوما في صورة الأنثى، فكانت مصر في تراثنا المقروء والمسموع والمحكي هي المرأة والأم والحبيبة، وهي مفارقة تستحق التوقف خاصة مع شعب يعشق وطنه بهذا القدر.

يقول الرأي المحفوظ أن الوصف الأنثوي يتعلق بكون مصر هي السيدة الفريدة الخصبة الولود الحنون ذات المنح والعطايا التي لا تنتهي، وهو الرأي الذي يمكن تفنيده بسهولة إذا ما أردنا، ولكن الأهم من تفنيده هو الوصول للحقيقة التي توصلت لها عندما قارنت صورة مصر في أذهان أبناءها مع صورة السيدة التي تعد التجسيد الأمثل للوطن في نظر الكثير.. أم كلثوم التي قدّسها المصريون كما قدّسوا وطنهم فلم تعد مجرد مطربة هائلة الشعبية، بل أصبحت رمزا حقيقيا يشغل مكانة لم ولن يشغلها آخر في قلوب أبناء النيل.

النظرة الدقيقة والمقارنة توصلنا لحقيقة أن الصيغة الذكورية ما هي إلا غلاف خارجي لشيء متناقض.. ألوهية أنثوية تسيطر على المصريين.. نعم.. نحن شعب نعبد النساء، ولكن ليست أي نساء!

المصريون لا يقدسون الجواري المانحات بلا حدود، والواقع أن لا أحد يفعل "وحجم وطنية أبناء دول الخليج المانحة أبرز مثال"، والحقيقة أن مصر لم تكن أبدا مانحة بلا حدود، فتاريخنا يشهد أن الغالبية العظمى من المصريين لم يعيشوا أبدا في رغد وطنهم، كذلك لم تكن أم كلثوم مانحة بلا حدود، بل كانت مانحة ومانعة، تستفيد من إمتاعها للملايين بالسلطة والمال والنجومية وقبلها بحب الناس.

المصريون لا يقدسون مصر لأنها تأخذ دوما صفهم، فلطالما كانت مصر مطيعة للسادة من الفراعنة للمماليك للعسكر على حساب أبناءها، وكذلك كانت أم كلثوم هي مدّاحة كل عصر، تغني لفؤاد وفاروق وجمال وللملكية والاشتراكية، هذا التمنع الذي يجعل كليهما أكثر إثارة وإغراءا، ويجعلنا أكثر عشقا وتمنيا لنيل الرضا.

مصر ليست دولة فريدة لم يخلق الله مثلها في البلاد، وكذّبنا جميعا هيرودوت الذي رآها هبة النيل ورأيناها هبة أبناءها الذين عشقوها فصنعوا تاريخها، كذلك لم تكن أم كلثوم هبة صوتها الغير مسبوق.. انس هذا الأمر فالحقيقة أن هناك عشرات الأصوات الأجمل.. انس كذلك أساطير الأولين حول المايكروفون الذي لم يتحمل قوة صوتها، فهي حكاية إن صحت فلن تدل سوى على شيئين، أولهما سوء حالة مايكروفونات ذلك العصر، وثانيهما أن أي حمار كان ليأخذ مكانة أكبر من أم كلثوم بحكم قوة الصوت!.. أم كلثوم هي هبة من حولها، هبة قمم الكلمة واللحن الذين منحوها تراثا حقيقيا قادرا على إدخال أي مغن للتاريخ.

نحن لا نحب مصر لأنها الأجمل ولا لأنها تمنح بلا حساب، نحن نعشقها بكل ما فيها، بجمالها وقبحها ومنحها ومنعها، وتذوب قلوبنا هياما بمصر الأنثى الباهرة التي كثيرا ما تعطينا ظهرها وتلين لغيرنا. ونحن لا نحب أم كلثوم المطربة ذات الصوت الفريد التي دعمت المجهود الحربي، بل نحب أم كلثوم الفلاحة الخبيثة.. الأنثى اللعوب.. الماهرة في اللعب على كل الأوتار والنجاح في كل العصور.. نحب أم كلثوم الأنثى التي التف حولها أعظم مبدعي مصر.. شعراء وملحنين بهامة السحاب عشقوها ومنحوها أفضل ما عندهم طلبا للرضا والقبول، فأخذت المنح لتصنع بها أسطورتها، ثم أدارت لهم وجهها وتركتهم لتتزوج من طبيب!

Thursday, February 17, 2011

حلقة 32 - نجيب محفوظ

حلقة 32

نجيب محفوظ

11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006

مسقط رأس: الجمالية – القاهرة

مأزق شديد أن تحاول الكتابة عن رجل هو أكثر من سودت أوراق ودراسات ورسائل للكتابة عنه بين كل الكتاب العرب، وهو مأزق ذو جانبين متناقضين، أولهما صعوبة العثور عن جديد يمكن إضافته بعد هذا الكم من الشهادات والتحليلات، وثانيهما هو أن رجل بمثل هذا الزخم الأدبي والفكري يصعب مهما كانت بلاغتك أن تسطر ما يوفيه حقه في هذه المساحة المحدودة.

فبالإمكان أن أبدأ حديثي من جانب شخصي، لأتحدث عن نجيب محفوظ كاتب أول رواية حقيقية أقرأها بعد أعوام من إدمان روايات الجيب، وكانت بالتحديد رواية "خان الخليلي" التي أخذتني لعالم أدبي لم أكن أتصور وجوده، ليصير نجيب محفوظ إله الأدب الخاص بي، أكثر من يملك القدرة على إبهاري وإمتاعي والكاتب الوحيد الذي قرأت تقريبا كل سطر قام بكتابته على كثرة هذه الكتابات.

ويمكنني أيضا أن أتحدث من جانب حياتي فلسفي، باعتبار رحلة نجيب محفوظ هي التجسيد الأمثل لصراع الإبداع مع ما سواه، فالرجل الهادئ الملامح والطباع الفائر الموهبة اتخذ منذ اللحظة الأولى القرار الأصعب على أي مبدع: أن يكون الممثل الوحيد له هو عمله، أن يضع كامل هامه في أدبه ويحمله بكافة أفكاره وخبراته بل وهواجسه وصراعاته الداخلية، بعيدا عن اي دور خارج هذا النطاق، فلم يشغل نفسه للحظة وطوال سنوات عمره الطويل بأي أزمة أو صراع، والميل لأي جانب يجبره على اتخاذ مواقف عنيفة حتى ولو كانت هذه المواقف نبيلة أو في جانب الصواب، فلم يصطدم نجيب محفوظ بسلطة أو يخرح في مظاهرة ليس بسبب التخاذل "فأدبه خير دليل"، ولكن لقناعته التامة بأن هناك آلاف ممن يمكنهم تزعم المظاهرات، ولكن هناك شخص واحد فقط يمكنه أن يكون نجيب محفوظ.

ومن النقطة السابقة ننطلق لمفارقة كونه الشخص الوحيد في تاريخنا "ولا أريد أن أعمم فأقول في التاريخ" الذي يتعرض لمحاولة اغتيال بسبب الأدب، فكل محاولات الاغتيال التي كان هدفها أشخاص من حملة الأقلام كان العامل الأساسي فيها ليس النص الأدبي بل موقف الكاتب منه، فإصرار الكاتب على محتوى أدبه ودفاعه عنه هو عادة ما يحرك الرافضين ضده، ولكن في حالة نجيب محفوظ الفريدة لم يقم الرجل بالدفاع عن نصه، بل إن البعض يراه قد تهاون في واجبه تجاه عمله، وأعتقد أنا أنه قد أكمل واجبه الأدبي بإنهاء النص، فقرر تركه للتاريخ ليكون حكما على محتواه، وفضل عدم دخول معارك تعطله عن إنجاز العمل التالي، لذلك جاءت محاولة اغتياله نموذجا لرفض التطرف للاختلاف، حتى ولو كان صاحب هذا الاختلاف قد أرجأ الفصل إلى محكمة التاريخ الإنساني.

وبعد تفكير أعمق في أهم ما يمكن ذكره عن رجل بهامة نجيب محفوظ، وجدت أن أكبر إعجاز قد أتى به يكمن بالتحديد في أعماله وفي قيمتها وإسهامها في تاريخ الأدب العربي بشكل غير مسبوق في أي مجال إبداعي حول العالم، فالمؤرخون يؤمنون في أنك كي تقدم مجالا إبداعيا في مجتمع يجهل هذا المجال فإنك لابد وأن تحتاج إلى جيلين من المبدعين: جيل مؤسس يعرف أعضاء المجتمع على هذا النوع من الوسائط الإبداعية في صورتها الكلاسيكية، فيوسع قاعدة محبي هذا الفن "الرواية في حالتنا" ويصل لأبعد نقطة في السياق التقليدي له، ثم جيل آخر مجدد يدخل بالمجال الإبداعي لآفاق جديدة لم يتمكن المؤسسون من التطرق لها.

لهذا فإن نجيب محفوظ ينفرد لا بين أدباء العرب ولا مبدعين، بل بين مبدعي العالم بأسره أنه الوحيد الذي أسس وجدد، فكان من طليعة من أفهموا المصريين فكرة الرواية الكلاسيكية ونظريتها، بل يكاد عمل مثل الثلاثية أن يكون العمل الروائي الكلاسيكي الأعظم في تاريخ اللغة العربية، ثم قرر ببصيرة فاقت الجميع أن يخرج إلى أفق أرحب طرق فيه أبواب الصوفية والوجودية والفانتازيا والواقعية السحرية بخفة ونجاح لا يزال بعض كبار المجددين غير قادرين على تحقيقه.

Tuesday, February 15, 2011

حلقة 31 - حسب الله الكفراوي

حلقة 31

حسب الله الكفراوي

30 نوفبر 1930

مسقط رأس: كفر سليمان – كفر سعد – دمياط

أذكر في طفولتي وبالتحديد مع بدء معرفتي لأن هناك ما يدعى بالوزارات ومتابعتي باهتمام طفولي للكاريكاتير الإسبوعي في أخبار اليوم لفلاح كفر الهنادوة ورئيس الوزراء عاطف صدقي، أنني حاولت وقتها أن أعرف جميع أسماء الوزراء، وأنني دأبت على جمعها من الصحف اليومية، وأذكر جيدا أن بعض الأسماء قد علقت في ذهني ولا تزال حتى يومنا هذا، منهم وزير الداخلية عبد الحليم موسى "من باب ارتباط الأمر بعمل والدي"، ووزير التربية والتعليم حسين كامل بهاء الدين "من باب ارتباط الأمر بعمل والدتي"، ووزير الإعلام صفوت الشريف "بحكم ظهوره المستمر بجوار الرئيس في التلفزيون"، بالإضافة إلى ثلاثة وزراء كنت أراهم باستمرار في الصحف يتحدثون عن خططا ومشاريع وعلاقات لم أفهمها، الثلاثة كان حضورهم لافتا وصورهم مميزة بحيث يسهل تمييز أشكالهم بالنسبة لطفل في الثامنة أو التاسعة، كان الثلاثة هم وزير الخارجية عمرو موسى ووزير الكهرباء ماهر أباظة ووزير الإسكان حسب الله الكفرواي.

حتى هذه اللحظة كان الأمر مقتصرا على أشكال وجوههم على صفحات الجرائد، والتي سرعان ما اختفى من بينها وجه الكفراوي باستقالته عام 1993 بعد 17 عاما قضاها وزيرا في وزارة تغير اسمها وصلاحياتها في كل تشكيل وزاري جديد. وعندما كبرت قليلا وتمكنت أخيرا من القراءة والفهم والمقارنة، فهمت أن تمييز طفل ساذج للأسماء الثلاثة لم يكن مجرد توفيق شكلي، بل إن الأمر له علاقة "ودعني أخاطر بقولها" بمنحة إلهية للأشخاص الثلاثة تمثلت في أعمالهم وحب الناس لهم، وتوجت ببقاءهم في بلدهم مكرمين في ظل انهيار وهروب العديد والعديد من رموز النظام السابق الذي كان الوزراء الثلاثة جزءا منه "واستثني المهندس ماهر أباظة الذي توفي وسط تكريم رسمي وشعبي".

عاد الكفراوي ليكون ملء السمع والبصر مجددا بعد سقوط مبارك، وتسابقت الفضائيات للحصول على حوار مع الرجل الذي تخطى الثمانين والذي كان لسنوات طويلة بعيدا أو مبعدا عن الأضواء بفعل النظام المخلوع، وتداول الشباب ممن لم يكونوا يعلمون بوجود وزير حمل هذا الاسم تسجيلات لأقوال الكفرواي واعترافاته، والحقيقة أنني وقفت كثيرا محاولا فهم سر الشعبية التي اكتسبها الرجل خلال أيام أقل ما توصف به هو الزخم في مهاجمة النظام السابق ورصد أوجه الفساد فيه، فلو كان الكفراوي قد خرج بتصريحاته قبل شهر من الآن لكان طبيعيا أن ينال إعجابا يتعلق بكسره لحاجز الصمت وحديثه عما شاهده، لكن الآن ووسط هذا الكم الرهيب من لاعني مبارك وحكمه، لماذا أحب الناس الكفراوي؟

والحقيقة أنني توصلت لأكثر من سبب للأمر، السبب الأول هو شخصية الكفراوي نفسها، فالناس الذي تعودوا في الأعوام السابقة على حكومة رجال الأعمال وعلى الوزراء الذين يتحدثون عن عالم افتراضي يؤمنون وحدهم بوجوده، تعودوا على وزراء تفوح الأبهة من مظاهرهم ويحمل حديثهم عبق القصور التي يعيشون فيها، وجد الناس أنفسهم فجأة أمام فلاح دمياطي لم يتخلص طوال سنوات عمره من اللكنة الريفية ومن التفكير بطريقة رب الأسر البسيط، ومعه مذيع يقول لهم أن هذا الرجل كان وزيرا لقرابة العقدين من الزمان!

السبب الثاني هو عامل المفاجأة في أقوال الكفراوي، وتذكيره لنا بأرقام كنا قد نسينا وجودها على سطح الكوكب، تخيل معي شعور شاب يسمع للمرة الأولى أن طن الأسمنت كان ثمنه 90 جنيها، وطن الحديد 600 جنيها، وسعر المتر في السادس من اكتوبر 35 جنيها، وسعر الشقق 6 و14 ألف جنيه بالتقسيط على 27 عاما، وأن كل هذه الأرقام لم تكن في عصور ما قبل التاريخ، بل كانت في النصف الأول من التسعينيات!

السبب الثالث هو التهذيب الشديد وشموخ الكبار في حديث الكفراوي، فالرجل الذي أصبح بإمكانه سب الجميع وفضحهم بل والادعاء عليهم بما ليس فيهم دون أن يملك أحد تكذيبه، تمسك بنفس طريقته طوال السنوات الماضية، وهي أن يروي الوقائع دون ذكر اسماء القائمين بها، والإعلان عن استعداده للتصريح بالأسماء في التحقيقات الرسمية حتى يكون للشهادة معنى حقيقي، ولكنه التهذيب الذي لا يمنعه من أن يهاجم الفاسدين على طريقة الأب المصري، وأن يتمنى ضربهم بالجزم عقابا على ما اقترفوه، وفي التناقض تكمن مشاعر الرجل الشريف الذي لم تطل ذمته أي شبهة فساد، والذي يشعر بحجم جرم استغلال النفوذ، فيروي بفخر عن قيامه بنقل رئيس نقابة أراد سرقة الشعب إلى وظيفة عامل تشغيل بمحطة صرف صحي، لأنه يرى أن "الوسخ يجب أن يوضع في مكان يليق به"!